Saturday, September 29, 2012

الدكتورة بسمة عبد العزيز تكتب تلك القضبان



وسط الحرارة الخانقة وأدخنة السجائر، مددت يداى بالأوراق من بين القضبان الحديدية الضيقة، ثم مررتها من أسفل الفتحة المنخفضة للشباك الزجاجى، محاذرة أن تنثنى أو ينفلت بعضها، حتى أوصلتها فى نهاية المشوار إلى يد تلقفتها من وراء كل تلك الحواجز، وجَذَبَتها لتعبر بها إلى الناحية الأخرى، فتمزقت بعض الأطراف وانبعجت من المنتصف.

●●●

ظللت طوال شهرين كاملين أكرر الأمر ذاته فى محاولة لإنهاء بعض الإجراءات الحكومية، أنضم إلى صف طويل، أستمع إلى ثرثرة الواقفين، وأشارك فى محاولات لفض المعارك الجانبية، ثم أصل فى نهاية المسيرة إلى حاجز من القضبان أو الزجاج السميك، وأقف أمام الموظف أو الموظفة فى موضع اتهام، مجبرة على إثبات حسن النوايا تجاه كل طلب، وكل ورقة أقوم باستخراجها.

مع تزايد عدد الإجراءات وتشعبها، أضفت إلى حصيلتى السابقة، سماعة تليفون ثقيلة باردة، تشبه كثيرا تلك الموجودة فى سجون الأفلام الأجنبية، كى يتواصل السجين عبرها مع زائريه، يعرف السماعة كل من اضطرته الظروف ذات يوم لزيارة سفارة هنا أو قنصلية هناك. مع انتهاء رحلة جمع الأوراق والأختام والإمضاءات، أدركت كم هو طويل هذا الوقت الذى قضيته، أرفع صوتى، وأشب على أطراف أصابعى، أو أنحنى وألصق رأسى بالقضبان، لأتمكن من التواصل مع محدثى، كم هو طويل ذاك الوقت الذى شعرت فيه بالحصار والاختناق وأحيانا بالفشل.

●●●

حاولت أن أحصى عدد الحواجز التى قد أمر بها فى الأيام العادية، فوجدتها كثيرة، أمام شباك التذاكر فى محطة مترو الأنفاق قضبان، وحول المخابز المدعمة، وبعض مكاتب البريد ومحطات القطار قضبان، ونافذة الخزانة التى أقبض منها راتبى الشهرى بالمستشفى كذلك، ومنافذ بعض المؤسسات والدور الثقافية، دار الأوبرا ذاتها لم تسلم بعض مكاتبها من القضبان، وكل نوافذها من الزجاج العازل ذى الفتحات شديدة الصغر، حتى مكاتب وزارة الخارجية فى العديد من الأحياء، تبدو بعيدة جدا عن وصف «الخارجية»، لفرط ما يحيط بها من حواجز، فى حى مصر الجديدة على سبيل المثال، يختفى كل حس ودود قد يُمَنِّى المرءُ به نفسه، لتحل محله قضبان حديدية سميكة، لها لون رمادى باهت، يليها زجاج مطوس، يُلقى بالزائر بعيدا عن مطلبه وحاجته من المكان.

ربما تصنع القضبان والحواجز عوازل مستفزة فى بعض الأحيان، تحمل فكرة التخوين والخوف والتوجس من الآخر، تضع حدودا بين من يملك السلطة ومن يحتاج إليها، وتُذَكِّرُ بأن ثمة مسافة تفصل بين من يتكلم ومن يسمع، وبأن ثمة من لا يُمَسُّ وما لا يمكن الوصول إليه، عَظُمَ شأنه أو صَغُر. ربما لا يستدعى مرأى القضبان إلى الذاكرة، إلا ما يرتبط بالسجون وأقسام الشرطة، ولطالما ارتبطت كلمة «القضبان» بالمدانين، مجرمين وأبرياء، بحرية مُشتَهَاه بعيدة المنال، لكن الذاكرة تستدعى أحيانا ما هو أكثر إيلاما؛ قد تأتى مثلاُ بصورة فوتوجرافية مريعة، لتلك القضبان، التى سدت نوافذ القطار المحترق، ومنعت الناس من الفرار حتى تفحموا وهم يتشبثون بها.

يقال إن الحواجز الزجاجية والبلاستيكية الشفافة، إنما هى لحماية الموظفين من التعرض المكثف لميكروبات، يحملها مئات وآلاف من الناس يأتون يوميا لقضاء مصالحهم، ويتحدثون ويتنفسون فى وجوه مستقبليهم، لكنى أظن أن هذا السبب هو فقط الأكثر تهذيبا ودماثة، فسماعة التليفون التى تنتقل من يد إلى يد ومن فم إلى فم فى الأماكن الأكثر تقدما والأعلى مستوى، لابد وأنها تحمل ميكروبات أكثر تنتشر بين الزائرين، وأغلب الظن أن تلك الحواجز المتينة ما هى إلا وسيلة للحماية من أى اعتداء مباغت، قد يقوم به مواطن مغتاظ، أو مواطنة فقدت صبرها من طول الانتظار.

●●●

بعد زيارتى الأخيرة لأحد المكاتب الحكومية القريبة من محل سكنى، قررت أن أكتفى بالاحتمال الأخير: القضبان موجودة فى أماكنها لمنع اعتداء جمهور المقهورين على عموم الموظفين، الذين يشترك أغلبهم فى السمات المزعجة ذاتها، تأكدت من صحة اختيارى حين ضبطتنى أفكر فى كيفية انتزاع القضبان من أماكنها، كى أرى جيدا وجه وملامح الموظف، الذى يستخدم كل ما أوتى من مهارات وقدرات لتعطيل الواقفين، وأتمكن من سؤاله دون «حواجز» عن سبب سلوكه.

تمر بذهنى حواجز أخرى هائلة الحجم، مصمتة، لا تتمتع بالفراغات الكائنة بين القضبان، ولا تحمى فردا موظفا أو مكتبا صغيرا، بل تفصل مجموعات كبيرة من الناس عن هدف هو أيضا كبير؛ الأحجار العريضة الضخمة التى رُصَّت فى الشوارع المحيطة بوزارة الداخلية لتعزلها عن الثائرين على طغيانها؛ والجدار الفولاذى العازل الذى بدأ تنفيذه منذ سنوات ثلاث على الحدود بين مصر وغزة، كى يمنع حفر الأنفاق؛ وأخيرا هناك حائط برلين، الذى ربما شَكَّل حتى وقت ليس ببعيد، أكبر عازل أقيم بين البشر فى بلد واحد، وقد سقط الحائط عام 1989، مع سقوط القيود المفروضة على التحرك بين ألمانيا الشرقية والغربية، وتكاد معالمه الباقية أن تختفى فى الوقت الحاضر، بسبب العادة التى دأب الزوار عليها، وهى الاستيلاء على بعض أحجاره للاحتفاظ بها كتذكار لفشل التقسيم.

●●●

حواجز متعددة الأشكال تحيط بنا، نقضى وقتا طويلا من حياتنا أمامها دون أن نرتكب ذنبا واضحا، فقط مشكوك فينا. يبدو لى أن هناك تناسبا طرديا يحكم حجم وسمك وقوة العازل، فكلما ازدادت الفظاظة كلما صُنِعَت قضبان وجدران وحوائط.

No comments:

Post a Comment