Sunday, September 23, 2012

د. محمد البرادعى يكتبفي التحرير : - سنوات الخداع (8).

فى هذه الساعات المبكرة من يوم الإثنين 17 مارس كان هناك خلاف فى الرأى حول ما إذا كان علينا سحب المفتشين فورًا أم لا، فبينما كان «بليكس» يريد سرعة سحب المفتشين التابعين له لضمان أمنهم، كنت أرى أنه لا ينبغى لنا أن نسارع بذلك لمجرد أن الولايات المتحدة أخبرتنا بذلك. وكان «أنان» يريد أيضًا التأجيل حتى الصباح بما يسمح بإجراء نقاش مع رئيس مجلس الأمن فى ذلك الوقت ومع وزير الخارجية الأمريكى «باول».
وفى هذه الليلة وبعد أن أنهيت مكالمتى وجافانى النوم تحدثت طويلًا مع زوجتى عايدة التى كانت دومًا مصدر نصح ومؤازرة لى. وتطرق حديثنا لما هو قادم وكيف ستتطور الأمور مع وقوع الغزو والمدة التى قد تستغرقها الحرب وما يمكن أن يقع من ضحايا. ورغم أننى كنت أعلم أنه لم يكن هناك فى وسعى المزيد الذى أستطيع القيام به لمنع هذه الحرب إلا أننى كنت أشعر بأسى بالغ للدمار والقتل الذى كنت أراه قادمًا باتجاه العراق وبدون مبرر.
والحقيقة أنه خلال عملية التفتيش كثيرًا ما تساءلت عن السبب الذى لا يجعل العراق أكثر شفافية وسرعة فى التعاون مع المفتشين، ولم أكن واثقًا من الإجابة وما إذا كان الأمر يتعلق بشعور العراق أن تقديم المزيد قد ينال من كرامة العراق فى مجتمع ينظر باهتمام كبير للاعتداد بالنفس، بما كان يمكن أن يجعل المزيد من التعاون يبدو وكأنه إهانة للعراقيين على يد المفتشين، أم أن العراقيين كانوا لا يزالون يتشككون فى أن عمليات التفتيش ما هى إلا ستار لجمع المعلومات تمهيدًا للحرب، أم أنهم كانوا يعتقدون أن الحقيقة ستكون واضحة بالضرورة للمفتشين لأنه ليس لدى العراق أسلحة دمار شامل بالفعل.
وفى كل الأحوال كان واضحًا أن هناك كثيرًا من العراقيين ممن لديهم إدراك أن الولايات المتحدة مُصرّة على النَّيل من صدام حسين وأن الحرب كانت حتمية فى كل حال.
وفى صباح الإثنين، أى عقب ساعات من تلك المكالمات، عدت أنا و«بليكس» و«أنان» للتواصل عبر الهاتف معًا، واتفق ثلاثتنا على أن يقوم «أنان» بإخطار مجلس الأمن بأنه سيتم سحب المفتشين حرصًا على سلامتهم، وكانت إجابة المجلس أنه «أخذ علمًا» بهذا القرار. وبالطبع فإن بعض أعضاء المجلس مثل روسيا وسوريا، فى ذلك الوقت، لم يشعروا بالرضا عن هذا القرار، ولكنهم رأوا أنه من غير المجدى أن يتم تعريض حياة المفتشين للخطر بلا طائل، وبدورى فقد قررت سحب مفتشى الوكالة، لأن سحب مفتشى «الأنموفيك»، الذين كانت الوكالة تعتمد على التسهيلات اللوجيستية التى يقدمونها لمفتشيها كان سيجعل بقاء مفتشى الوكالة فى العراق غير ذى جدوى.
وبالمصادفة فإن هذا اليوم شهد واحدًا من خمسة اجتماعات اعتيادية يعقدها مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنويًّا، وقد أشاد العديد من الدول أعضاء مجلس المحافظين، بما فى ذلك جنوب إفريقيا واليابان وفرنسا وألمانيا والبرازيل، خلال تلك الجلسة بالعمل الذى قامت به الوكالة فى العراق.
وكان من أهم ما قيل فى ذلك اليوم كلمة سفير جنوب إفريقيا «عبدول منتى» الذى أعرب عن الأسى لحرب قادمة لا يعرف أحد مدى تداعياتها، ولكن أيضًا لما تعنيه هذه الحرب من تجاهل لدور الأمم المتحدة وأثر ذلك على إدارة العلاقات الدولية فى المستقبل.
وبالمقابل، وفى مفارقة صارخة، فإن سفير الولايات المتحدة الأمريكية لم يأت فى بيانه على الإطلاق على ذكر العراق. وكذلك فعل نظيره البريطانى. وكان معظم الحاضرين مشغولين بمتابعة الاستعدادات الجارية للحرب.
وعندما حان دورى لإلقاء كلمتى أمام المجلس اختتمتها بعبارة مقتبسة عن «آدلاى ستيفنسن» الذى قال فى 1952: «إن الشر لا يكمن فى الذرة ولكن فى نفوس بعض البشر».
ومن الناحية الفعلية، فإن مسؤولية الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تنتهِ مع بدء الحرب، وبالتالى فقد كنا نشعر بالقلق على سلامة المواد النووية التى كانت لا تزال فى العراق تحت أختام الوكالة. وكان من أسباب قلقنا ما يصل إلينا من معلومات عبر مصادر عراقية عن عمليات سلب لمناطق تقع فيها مواقع تخزين هذه المواد النووية. فعلى سبيل المثال كانت هناك تقارير من موقع «التويثة» تفيد أن بعض الحاويات المعدنية التى كان بها مواد مشعة كان يتم تفريغها واستخدامها لنقل مياه الشرب وغسيل الملابس وغير ذلك من الاستخدامات الإنسانية، وهو ما كان يعنى أخطارًا بالغة على صحة هؤلاء الذين يستخدمون هذه الحاويات الفارغة، وقيل لنا كذلك إنه تم إطلاق حشرة الدودة الحلزونية غير المشعة من المختبرات، الأمر الذى يشكل خطورة صحية بالغة للبشر والماشية. ولم يكن الأمر يقتصر على ذلك لأن موقع «التويثة» شأنه شأن غيره من المواقع النووية، كان به كثير من المواد الخطرة التى يمكن أن يتسبب وصولها إلى أيدى مدنيين غير مدربين، أو أيدى مسلحين متطرفين قد تكون لديهم الرغبة فى الحصول على «قنبلة قذرة» أو فى بيع تلك المواد فى السوق السوداء، فى إحداث حالة من الفزع. لم نكن نعرف بالضبط حقيقة ما يحدث وكان ذلك من أكبر دواعى قلقنا.
وعلى هذا بدأت فى التأكيد، من خلال مقابلات ومقالات صحفية، على ضرورة عودة مفتشى الوكالة للعراق، وقد أصدرت فى 11 إبريل بيانًا صحفيًّا ذكرت فيه أننى كتبت إلى الأمريكيين بشأن أمن وحماية موقع «التويثة» ماديًّا وأننى تلقيت منهم تطمينات شفوية فى هذا الشأن.
كما أكدت كثيرًا ضرورة الاعتماد فى هذا الشأن على خبرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خاصة بعد أن أفادت وكالة «أسوشييتد برس» بأن مجموعة من جنود المارينز الأمريكيين قد دخلوا موقع «التويثة» وعثروا على مواد نووية ظنوا أنها دليل على امتلاك العراق لبرنامج تسلح نووى، بينما كان ما قاموا به فى الواقع هو كسر عبوات من المواد النووية كانت الوكالة قد قامت بتحريزها فى ذلك الموقع، ولكن الحقيقة أن هؤلاء الجنود لم يكن لديهم علم بما كانوا يقومون به أو بحقيقة ما وجدوه بين أيديهم.
وأكدت كذلك فى مقابلة مع «سى إن إن» فى 27 إبريل أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية هى وحدها المخولة قانونًا والتى لديها الخبرة الميدانية للتعامل مع الوضع على الأرض فى العراق من حيث القيام بالتفتيش على نحو سليم، وقلت فى تلك المقابلة: «لقد أمضينا فى العراق عشر سنوات، ونحن نعرف الناس ونعرف المنشآت والبنية التحتية والوثائق، ونعلم أين يجب أن نذهب وما الذى علينا أن نفعله، ولا أدرى لماذا يجب علينا أن نعيد اختراع العجلة». كما أشرت أيضًا إلى أن المصداقية التى يتمتع بها الموظفون الدوليون أعلى بكثير من تلك المتاحة لغيرهم.
وفى ذلك اليوم اتصل «كِن بريل»، السفير الأمريكى بـ«ديفيد وولر»، وهو أكبر الموظفين الأمريكيين درجة فى الوكالة، ليخبره بغضب واشنطن من حديثى الذى وجده مخالفًا لحدود مسؤولياتى الفنية. وبعد فترة التقيت «بريل» وأخبرته بأسفى من تلك الملاحظة، التى أبداها فقال إنه ينبغى علىّ أن لا أقدم النصح لأمريكا والائتلاف فرددت عليه قائلًا إن ما أصرح به هو أمر واقع فى صميم اختصاصى وعملى، وسأمضى قدمًا فى إبلاغهم برأيى.
وفى نهاية شهر إبريل تناولت إفطارًا مع مساعد وزير الخارجية الأمريكى «جون وولف» ومع «بريل»، وأخبرنى كلاهما بأن الخارجية الأمريكية لم تعد متابعة لتفاصيل ما يدور فى العراق، وأن الأمر الآن يدار من قِبل وزارة الدفاع الأمريكية، ونصحانى بأن لا أصر على المطالبة بعودة مفتشى الوكالة للعراق تفاديًا لإجابة لن ترضينى، حسبما قالا.
فما كان منى إلا أن أخبرتهما بأنه، على العكس منهما، فإننى ليس لدىّ أى أجندة سياسية، وإننى أتصرف من موقعى كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفى ضوء ذلك فإن مسؤوليتى تحتم علىّ إطلاع العالم على الحقيقة وتقييمها فنيًّا بناء على معلومات موثقة دون اتجاه سياسى. كما أكدت لهما أنه فى حال السماح لمفتشى الوكالة بالعودة للعمل فى العراق فإنها ستقوم بعملها بكل حيادية وشفافية كما هو الحال دائمًا.
وبعد هذا الحديث بفترة وجيزة وجهت رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مطالبًا بعودة المفتشين إلى العراق، ولكننى لم أحصل على رد. وبعد ذلك، وفى 12 مايو، التقيت «جاك سترو» فى لندن وأعدت التأكيد على ضرورة عودة المفتشين إلى العراق. وفى ذلك الوقت كان هناك الكثير من التغطية الصحفية للأخطار التى يتعرض لها البشر والبيئة فى العراق جراء عدم تأمين مواقع نووية، وهو ما دفعنى لأن أخبر «سترو» بأن ترك الأمر على ما هو عليه يعد بمثابة رسالة من أمريكا وحلفائها أنهم لا يأبهون لحياة العراقيين.
واتفق معى «سترو» فى الرأى بضرورة عودة مفتشى الوكالة للعراق خاصة لموقع «التويثة»، ولكنه أخبرنى بأن هناك انقسامًا فى الرأى فى واشنطن على هذا الأمر. ووعد «سترو» بالحديث مع «باول» فى ذات اليوم لإثارة هذا الأمر، كما قال إنه سيطلب من أحد مساعديه رفع الأمر إلى «بلير» حتى يثيره فى حديث كان من المقرر أن يجرى فى وقت لاحق من اليوم مع «بوش». وفى ذلك الوقت كان يتم التفاوض حول قرار جديد لمجلس الأمن يهدف لرفع بعض العقوبات عن العراق، وإنهاء العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء، ومنح التحالف صفة قانونية تتعلق بحفظ السلم فى العراق. ولكننى علمت فى ما بعد أنه لم يتم تضمين القرار النص على عودة مفتشى الوكالة إلى العراق، لأن بريطانيا لم تتمكن من الحصول على موافقة أمريكية فى هذا الشأن.
وبعد الكثير من الشد والجذب، تمكنا من الحصول على موافقة قوات التحالف على عودة المفتشين للتيقن من تأمين قائمة المواد والمعدات الموجودة فى «التويثة» على أن يتم ذلك بدعم لوجيستى من التحالف، ولكن مهمتنا تلك كانت محددة بشدة ولم تشمل تفقُّد الأضرار التى كانت قد لحقت بصحة البشر والبيئة، كما أنها لم تشمل أيضًا استئناف العمل للانتهاء من مهمة التفتيش فى العراق بما يسمح بغلق هذا الملف نهائيًّا. وفى كل الأحوال فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف فى ذلك الوقت بإنشاء آلية أطلقوا عليها اسم «مجموعة المسح فى العراق».
وكانت مهمة هذه المجموعة حسب التوصيف المقدم هى البحث عن أسلحة الدمار الشامل «المفقودة» فى العراق. كانت واشنطن ولندن تريدان التأكيد على أن العراق كان لديه أسلحة للدمار الشامل بالرغم من قول الوكالة الدولية للطاقة الذرية و«الأنموفيك» بغير ذلك، لأن هذه الأسلحة كانت المبرر الذى استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لتبرير الغزو.
وكانت مهمة هذه المجموعة المكونة من أكثر من ألف خبير من أمريكا وبريطانيا وأستراليا تقديم تقارير مباشرة إلى «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع الأمريكى. وكان «ديفيد كاى» قد عاد ثانية، بعد أن كان قد ترك الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى مطلع التسعينيات، ليكون فى هذه المرة رئيسًا لهذه المجموعة. وكان «كاى» قد عمل فى السنوات الفاصلة فى معهد اليورانيوم، أحد المعاهد الدولية المعنية بالطاقة النووية. ولكن عمله هذا لم يستمر لفترة طويلة فى ضوء عدم ارتياح المعهد لتصريحاته المضادة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتى كانت تنال من مصداقية المعهد وقدرته على التعاون مع المعاهد والجهات الدولية الأخرى المعنية بالطاقة النووية.
وكان أول ظهور لـ«كاى» قبل الحرب على العراق من خلال وسائل الإعلام الأمريكية، حيث تمت استضافته بوصفه خبيرًا فى ما بتعلق ببرامج أسلحة الدمار الشامل العراقية، وحيث كان يؤكد بثقة أن العراق يخرق التزاماته الدولية بشأن التخلص من هذه الأسلحة.
ولكن فى 2004، وبعد أن تعثر الوصول إلى أى دليل، استقال «كاى» من مهمته الجديدة وتصرف بأمانة عندما أخبر مجلس النواب الأمريكى أنه «يبدو أننا كنا جميعًا على خطأ». وقد خلف «كاى» فى هذه المهمة أحد الأعضاء السابقين «للأنسكوم»، وهو «تشارلز دلفر»، الذى استمر فى العمل مع مجموعة المسح حتى مطلع 2005 عندما تم حل هذه المجموعة نهائيًّا دون الوصول إلى أى دليل يخالف ما كانت الوكالة و«الأنموفيك» قد توصلتا إليه من قبل، ولكن بعد أن أنفقت مجموعة المسح فى العراق عامين ونصف العام من العمل بكلفة 3 مليارات من الدولارات. ويمثل هذا المبلغ ما يقارب إجمالى ميزانية إنفاق الوكالة على عمليات التفتيش والتحقق من أحوال المنشآت والمواد النووية فى العالم لمدة 25 عامًا.
ومع مرور الزمن تفاقمت المآسى التى أسفرت عنها الحرب، ومن تلك الكوارث تلك التى لحقت بموظفى الأمم المتحدة فى مقر إقامتهم بفندق القنال ببغداد وهو ذاته الفندق الذى كان المفتشون يقيمون فيه قبل ذلك، ففى 14 أغسطس من عام 2003، اقتحم انتحارى الفندق بشاحنة مفخخة مما أودى بحياة أكثر من 20 شخصًا، بمن فيهم «سيرجيو فييرا ديميلو» الذى كان يشغل منصب مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والذى كان يتمتع بقدرات دبلوماسية رفيعة وشخصية كاريزمية وقدرة على الإنجاز مما جعل الكثيرين ينظرون إليه على أنه الخليفة المحتمل لـ«كوفى أنان» كأمين عام للأمم المتحدة.
ولقد تألمت جدًّا لهذا الحادث الذى كنت أعرف الكثيرين ممن راحوا ضحية له بما فى ذلك «ديميلو» نفسه، ولكننى أيضًا تألمت للأذى الذى لحق بصورة الأمم المتحدة والتى طالما ارتبطت بالحياد، ذلك الحياد الذى جعل موظفى الأمم المتحدة عادة فى مأمن من التعرض للأذى، ولكن تلك الصورة يبدو أنها قد ذهبت عن الأمم المتحدة فى العراق ما بعد الحرب، حيث كان يُنظر إليها على أنها جزء من قوة للاحتلال أو رهينة لإرادة دول الاحتلال فى العراق.
ولم تكن الحادثة وحيدة، ولكن تلتها حادثة أخرى كانت لها أيضًا ضحايا من العراقيين ومن الموظفين الدوليين، وهو ما حدا بالأمم المتحدة وبمنظمات دولية لسحب موظفيها من العراق. وحذت حذوها منظمات أخرى معنية بالمساعدات الإنسانية. وفى ذلك الوقت أكدت كثيرًا على ضرورة العمل على استعادة الصور المحايدة للأمم المتحدة ووكالاتها.
وفى أواخر أكتوبر 2004، وتقريبًا مع عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ثارت ضجة جديدة عندما خاطبت وزارة العلوم والتكنولوجيا العراقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتبلغنا بأن موادَّ كيميائية شديدة التفجير، يمكن استخدامها فى تطوير سلاح نووى، قد تم الاستيلاء عليها من موقع «القعقاعة» الذى كان تحت إشراف الوكالة فى السابق.
وعندئذ قررت أن أخبر الولايات المتحدة الأمريكية وبعدها مجلس الأمن، وفى الوقت نفسه كانت الأنباء قد تسربت من العراق وأصبحت محل اهتمام من الإعلام الأمريكى، وهو ما تسبب فى ضجة فى واشنطن تم اتهامى خلالها بأننى أحاول التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة الأمريكية، كما لو أننى من قرر اكتشاف اختفاء هذه المواد فى ذلك التوقيت.
وفى ذلك الوقت كتب «ويليام سافيير»، أحد المعلقين الأمريكيين المتشددين، ليشير إلى أن إطلاعى مجلس الأمن على الأمر كان بمثابة محاولة للتأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية مثلى فى ذلك مثل المحاولة التى قام بها «بن لادن» من خلال تسجيل صوتى.
كنت حينئذ فى نيويورك للمشاركة فى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتلقيت مكالمة من «باول» الذى قال إنه يحدثنى كصديق وإنه بهذه الصفة ينصحنى بتوخى الحذر فى التعامل الإعلامى مع هذا الأمر بالنظر لحساسية موسم الانتخابات الرئاسية، وكان «سافيير» قد قال إننى أدفع بالتصويت لصالح السيناتور الديمقراطى «جون كيرى» مقابل «جورج دبليو بوش» الذى كان يسعى لإعادة انتخابه.
وبالفعل أخبرت «باول» بتطورات الأمر، وبأننى أدرك حساسية هذا التوقيت بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وأننى سعيت لإخبار الولايات المتحدة الأمريكية بالأمر أولًا على أمل أن تتمكن قوات التحالف من استعادة المواد المسروقة، ولكنه بما أن الأمر قد أثير من قِبل العراق وأن السفير البريطانى فى الأمم المتحدة اتصل بمكتب الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى نيويورك ليطّلع على ما جرى وبوصف أن المواد المسروقة من «القعقاعة» تقع ضمن مسؤولية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد وجب إطلاع مجلس الأمن على الأمر. ثم لفت نظر «باول» إلى أن السؤال هنا يتعلق بقرار العراقيين الإفصاح عن هذه المشكلة فى هذا التوقيت، مشيرًا فى الوقت نفسه إلى أن العراق به الكثير من المنشآت والمواد النووية غير المؤمَّنة من جانب قوات التحالف.
وفى حديث لاحق مع القائم بالأعمال العراقى فى فيينا أخبرنى بأن قرار إطلاع الوكالة على سرقة المواد المتفجرة من «القعقاعة» تم التداول بشأنه فى العراق، وأن القرار اتخذ بإطلاع الوكالة من قِبل وزير العلوم والتكنولوجيا العراقى الدكتور رشاد عمر بالرغم من أن المستشار السياسى للسفارة الأمريكية فى بغداد أخبر العراقيين بأن ذلك ليس ضروريًّا لأن مسؤولية الوكالة قد انتهت فى العراق. وسيظل التوقيت الذى اختار فيه العراق قرار الإعلان عن هذا الأمر عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومدى ارتباط هذا التوقيت بالانتخابات من الأسئلة المثيرة للاهتمام.
وأخبرنى «ديفيد سنجر»، أحد كبار المحررين فى «النيويورك تايمز»، بأن «كارل روف» كبير مستشارى «بوش» مقتنع بأننى مَن يقف وراء الإعلان عن اختفاء المواد المتفجرة من «القعقاعة» فى ذلك التوقيت. وكان «روف» قد شعر باستياء أيضًا إزاء محاضرة ألقيتها، بعد أيام من الانتخابات الأمريكية، أمام جامعة ستانفورد الأمريكية. وكان الغرض من هذه الكلمة استخلاص الدروس المستفادة من تداعيات الوضع فى العراق وإبراز أهمية العمل الجماعى من خلال المؤسسات متعددة الأطراف. وأكدت فى هذه المحاضرة أن عمليات التفتيش كانت تحقق نتائج فى العراق، وأنه لا يمكن تبرير الحرب الاستباقية فى ضوء ميثاق الأمم المتحدة خاصة أن انقسام المجتمع الدولى حول قضايا الأمن والسلم لا يخدم أحدًا على الإطلاق. كما أشرت إلى أن دول التحالف قد خسرت الكثير من المصداقية بسبب تلك الحرب التى شُنت دون تفويض من مجلس الأمن، بل إن الأمم المتحدة قد فقدت جانبًا من مصداقيتها باعتبارها الجهة التى تمثل الشرعية الدولية فى العمل فى العراق، وأنه أصبح ينظر إليها، ولا سيما بين العراقيين، باعتبارها تابعة لقوات التحالف وليس كهيئة مستقلة ومحايدة، وإن كان الخاسر الأكبر فى نظرى يبقى هو الشعب العراقى الذى عانى لسنوات طويلة من ديكتاتورية قاسية وعقوبات طاحنة، والذى ما زال عليه أن يعانى جراء الحرب التى جلبت الكثير من المآسى والتى أطلقت العنان للعنف ولاضطرابات أهلية.
ولم يكن فى ما قلته ما جاوز الحقيقة أو ما يخالف ما كان يتردد فى الدوائر الدبلوماسية ولكنه مثّل مع ذلك طرحًا علنيًّا غير مسبوق من مسؤول دولى حول سلامة موقف الحكومة الأمريكية إزاء الحرب على العراق، وهو ما أبرزته صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» فى اليوم التالى للمحاضرة عندما عنونت تغطيتها للمحاضرة بالقول بأن «مفتش الأمم المتحدة على الأسلحة يوجه ضربة لإدارة بوش».


No comments:

Post a Comment